لا يدومُ اغترابي

1

الآن , و على هذا القاع المنصهر من عرق البشر الخائفين, في القدم الرابعة بعد الشمس , ستصحو من الجدث العميق , و تتذكّر:

كان على القيامة أن تحدث يوماً ما .

ولكن هذا لن يبْعد اللهيب إصبعاً واحدة .

___

أحبّكِ

كمْ لوّثتني العناوينُ في الصحف الخائنة !

2

ثمّة دوماً طريقٌ لم نعبرْه , ولكنّنا تمنّينا .

هذا الطريقُ الذي لم يكنْ هو ما نسير فيه على وجه الحقيقة بينما يشتّتنا التيه بين طرقٍ أسأمتْها الشمس و الأقدام المتعبة الكثيرة .

ثمّة تناقض أصليّ بين الإبداع و القانون , و بمجرّد ان نسلّم بقانونيّة الوجود , نرمي شعلةَ النار عن كتف بروميثيوس , و تبدأ أكتافنا مع سيزيف مهمّة الاعتياد على أن الراحة في الاعتياد.

هذا هو المكرّس , و الذي نتعلّمه منذ بدء الولوج في رحم الحياة, التي تولجنا بطريقها في رحم المعتاد, لا وقت للحياة كي تفرد لكلّ كائن وقتَه في إبداع الحكاية , تبتدئ حكاياتنا كما تنتهي سواها , و كلّنا بيادق تحرّكنا نواميس لم نخترْها لنكرّر أدوار الآخرين في المسرحيّة, ليس في أذن الهواء متسع ليسمع قصصنا جميعاً , و لذاك تنتظمنا النواميس في ملابس متقنة السبك للممثّلين السابقين تاركةً لنا الأفق الرحب للإبداع في الاقتراب من النموذج .

للحياة الوقتُ الكافي لتعقيد الحبائل , و لتصطنع لنا غاياتٍ من سراب , و ترمينا في متاهات لا تنتهي بنا إلّا إلينا بعد أن نمرّ بالطريق الطويل للمرايا باحثين عن ظلالنا في زوايا من زجاج هشّ لا تضمّ غير انعكاس الضوء عن أمنياتنا التافهة ,ولكنها الجميلة لأجل هذا بالذات .

كان بورخس يخاف من المرايا, و كان مولعاً بالمتاهة و الظلال , في التيه إن سمّيتَه تيهاً وضوح المعركة , وضوح الغرابة و جلاءُ الضياع ,أن تعرف يعني أن تشقى ولكن أن تحترم ممارستك للشقاء في الوقت ذاته, وما الظلّ؟ , يروي العجائز دوماً مثلاً عمّن يبالغ في خوفه فهو يهرب من ظلّه, مثلٌ مضحك, ولكنّنا نرويه و نضحك بالضبط لنخفي عن أنفسنا الحقيقة القاسية و الفجّة –كما ينبغي للحقيقة أن تكون- أنّنا جميعاً نقضي عمرَنا هاربين من ظلالنا … أو هاربين إليها , لا عتمة في الظلّ ولا ضوء لا شخص فيه ولا عدم , فيه دلالة المبهم و اللامفسّر و المتحوّل أبداً , هذا الامتزاج اللامفهوم والدلالة الناقصة هو جوهر الظلال, الظلال جوهر حياتنا و معناها المقيم على الهامش دوماً.

لكن المرايا ؟! , هذا الانعكاس الواضح الفجّ للحقيقة ولكن باعتبارها خيالاً و وهماً , تضعنا المرايا أمام ارتباك لا يترك المعركة شريفة بين الوضوح و المبهم , ثمّة زيف لا شكّ فيه في هذا الزجاج ولكنّه الحقيقة ذاتها و كاملةً , تظهر المرآة القدرة الخفيّة للضوء و الهواء و أنّ كلّ فراغ هو محلّ للوجود و الخلق , و أنّنا الوحيدون الذين لا نرى وجوهنا بينما يمكن لزجاج تافهٍ أن يعكسها في أيّ مكان مبهم من الكون , لذلك اخترع بورخس قصة الملك الأصفر الذي حبس كائنات خرافيّة انتصر عليها في المرايا و أجبرها أن تقلّد الإنسان و تحاكيه إذلالاً لها و لتتذكّر  الهزيمة , ولكن هذه الكائنات توشك أن تخرج من المرايا ..و تنقضّ علينا و تنتقم من كلّ ما فعلنا لها … لصورنا نحن … لأنفسنا في انعكاسها الذي نكبته و تغلّفه بركام من درنِ الذكريات لأنّنا لا نريد أن نراه .. لأننا حقّاً و مهما كذبنا لا نريد أن نرانا.

في متاهةٍ ما لا بدّ منها و بينا تراقب ظلّك و تبحث عن مرآة تهرب منها , سترى شريطاً من النمل , و ستُدهش من ضخامتك المهزلة أمام الواقع المرّ : يعرفُ النملُ طريقه !

____

أثقلتنا أسماء الموتى و أنباء الحرب و خيبات أكلت من وجوهنا حتى انطمست , في ليلة ما ستحتاج صوتاً واحداً من استثناء الذاكرة الجنّة ليفتّت صقيع القلب , حتى تستطيع العودة -واثقاً من ارتوائك الخفيف- إلى عاديّك … إلى معاركة الظمأ الجحيم .

ولكنْ دون هذا الصوت , حين يتحوّل من الممكن إلى المحال , ما الذي يتبقّى حتى للجحيم … ما الذي يتبقى .

3

ماذا تريد اللغة؟

أن نريدَها؟ , لا , فهذا محسومٌ باعتبار بشريّتنا المؤسفة.

تريد اللغة منّا ما تريدُ المرأة , كل امرأة مركزٌ للوجود, ليس المركز الفيزيائي المرئيّ المتمثل بالشمس كما كان يظنّ اليونان, و إنّما المركز الإلهي .. مركز المعنى و فيض الجميل , كلّ امرأة أمام الوجود البشريّ  ترى ذاتَها كالعرش الإلهي أمام الوجود المطلق, تبحث اللغة كما تبحث المرأة عمّن يبلغ بها هذا الاتساق المطلق الذي يقترب بها من السماء التي تليق بالحلم الذي تراه دوماً , حلمُ جمالِها الذي تغبّر و تغيّر في صحراء الواقع الذي لم يفهمْها .

ولكن اللغة أكثر حكمةً و استقلالاً و اكتمالاً بحكم أنّها تجرّدت عن بشريّة المرأة …. هذه البشريّة التيه .

الحروف كما يرى ابن عربي أمّة بين الأمم , هذا الوعي باللغة ككينونةٍ لا تحلّ بها الحياة و حسب و إنّما تمنحها كذلك , بدأ قديماً منذ وعي أهل حران بالنفس الكليّة التي تتجلّى عبر اللغة و الموسيقى و الفنّ , و التي يجهد الإنسان كي يشبه اتساقَها , و كلّما اقترب من هذا الاتساق الصعب كان أدنى لإحساسه الضرورة بالجميل…. الجليل.

الكتابة بحثٌ عن هذا الاتساق مع الجمال الأوّل , ولكنّها بحثٌ قبل ذلك عن حبّ اللغة , و أن تشعر اللغة كما يشعر خصر امرأة أنّ أيدينا أكسبته كما تلقّت عنه جمالَه المطلق كما يليق به, ولكن الكتابة قبل أن تصل إلى ترفِ السماء المتسقة هذه , هي ضرورةٌ للتاريخ , يكتب الإنسان كما يحبّ و كما يحارب , و كما يبني و يلد و يتذكّر , كي يتغلّب على الأسر القاسي و الضيّق للزمن , و يرى امتدادَه فوق الوقت و الحياة و المرئيّ, أن تتكلّم جماعةٌ يعني أنّها دخلتْ حيّز الإنسان , أن تكتب أمّة يعني أنّها دخلتْ حيّز التاريخ , ما الإنسان إلّا هذا السعيُ المتصل لتجاوز المباشِر الملموس السهل ؟!

لم يفهم العربُ معنى الحروف المنزلة في بدايات السور , لكنّهم فهموا أنّ الحروف بذاتها تصلح محلّاً للكلام المقدّس , و أن اللغة بذاتها يمكن أن تكون معجزة, ربما هذا ما جعل الخطّ العربيّ أكثر تجلّيات حروف الأمم محلّاً للفنّ بحدّ ذاته , لمجرّد كونه مظهر اللغة, وهو ما جعل من المتصوّفة باحثين في معاني الأحرف و دلالاتها الإلهيّة و الكاشفة للوجود, ليست الاحرف باعتبارها أصواتاً , و إنّما حتى برسومها , كلّ حرفٍ برسمه يحوي خفايا مكنوزةً من الخلقِ الأوّل و من السرّ الإلهيّ المكنون.

في زقاق معتمٍ من بغداد , كان ثمّة بيت يحوي غرفةً عُلّق فيها مصباح خافت , تحت هذا المصباح كان ثمّة فتاة بين يدي أبيها , طفلة عمرها سنتان كان أبوها يلاعبها قبل نومه و يناديها : يا مقلة أبيها.

ستكبر هذه الفتاة , و ستتزوّج غصباً أو حبّاً , من يهتمّ بعاطفة الماضي ؟!, و ستلد أبناء و أحفاداً و تموت ,  وسيكون من نسلِها شاب يعيش بين آخر القرن الثالث و أوّل القرن الرابع , سيعرفه التاريخ بأنّه ابن مقلة .

انتقلت الكتابة العربية مع ابن مقلة إلى أفقٍ آخر من آفاقها الجماليّة, يجمع المؤرّخون على إعجاز خط ابن مقلة بالنسبة لكتاب عصره , و أنّ أسماء معدودة عبر التاريخ من بلغتْ مرتبة ابن مقلة في الخطّ , كان ابن مقلة أوّل من وضع قواعد للكتابة , قواعد معياريّة لتقترب يد الإنسان من الجماليّة المرئيّة للغة ,من الاتساق الكليّ للمرئيّ الذي يظمأ الإنسان طويلاً في صحراء العمر باحثاً عن ارتواءٍ خفيفٍ منه .

اخترع ابن مقلة خط الثلث , و خط النسخ , وما زلْنا حتى اليوم, و رغم ما ناب هذي الخطوط من تحوّلات و تطوير و توفيق بينها و بين خطوط أخرى, إلّا أنّنا حتى اليوم , و بمعنى ما , نقرأ القرآن بخطّ ابن مقلة .

لم يكنْ ابن مقلةً خطّاطاً و حسب , و إنّما كما تقتضي شؤون الكتابة, كان شاعراً و مؤلّفاً و حكيماً و تاجراً غنيّاً , و بالاتساق مع تلك المرحلة وزيراً كذلك.

ليس بعيداً عن يوم موته , اجتمع الفقهاء في مجلس الخليفة الراضي بالله, و بالاتفاق مع الوزير ابن رائق , و صدر الحكم بقطع يد ابن مقلة , يده اليمين التي كان يكتب بها .

باكياً , كما تبكي اللغة, كان يدعو على من قطع يمينه , و بينما يبلع دموعه و ينشج كان ينشد للفراغ الموحش الذي حلّ مكان يده :

 ليس بعد اليمـين لذة عيـشٍ…  يا حيـاتي …. بانت يميـني … فبيني

لم يرقْ دعاء ابن مقلة لابن رائق , فأمر بقطع لسانه و حبسه.

في أيّامه الأخيرة في السجن , وحيداً إلّا من أوساخه التي ضاعفها المرض , و بأسمالٍ ممزّقة تلهو بها حشرات بغداد , ضعيفاً لا يد ولا لسان ولا لغة, كان يحتاج لكي يشرب من البئر المتروك له , أن يمسك الحبل بأسنانه بينما يرفع الدلو بيده اليسرى , كي يشرب الماء .

لكنْ أين ذهبتْ يد ابن مقلة ؟!

هل اختفتْ فجأة من يد الجلّاد و حكى المنجّمون وقتها أنّ اللغة استردّتْها , أم هل رُميت في خرائب دار القضاء لتجملها الطير و تدفنها تحت مكتبةٍ ما؟ , أم أنّها تُركت لابن مقلة كي يحنّطها و يحفظها لأبنائه و يكتب عنها القصائد؟

على عكس ما تريد الفلسفة و يتأمّل الشعر , يثبت التاريخ دوماً أنّه أكثر فجاجةً من الأحلام.

من الأساطير المؤسّسة للدولة المثلى أنّها من يحكمها الحكماء, و أنّ أهل الفكر أجدر بتغيير التاريخ و أقربُ للرحمة الأصلية في الإنسان و أشبه بتحقّق الروح الكليّة من أهل السلاح .

لكن تاريخ المرحلة التي عاش فيها ابن مقلة يثبت نقيض ذلك , في القرن الثالث الهجري ,و مع تطور منصب “الكاتب” في الدولة , و وسط تعقّد الخلافات بين مؤسسة الحكم و العسكر و الجماعات الكثيرة التي تمثّلت بمظهر سياسي عسكري لا قومي فقط, ظهرتْ مرحلة من الوزراء الكتاب في الدولة العباسيّة, وعلى عكس ما نريد أن نؤكّد كمثقّفين , فقد كان حكم الكتّاب مليئاً بالدسائس و المؤامرات و الظلم و التعذيب, هل يغلب الواقع اللغة ؟ , أم هل تعبأ اللغة بالواقع؟ , ذاك متروكٌ لمن يجد وقتاً للمجاز المناسب , و لم يكن ابن مقلةً استثناءً من ذلك , قتل ابن مقلة الكثير و شارك في مؤامرات كثيرة , عارك السلطة و حارب و جرّب مكرَه و قدرته على التلاعب بالمصائر و الدول , و كان فرداً كذلك من مسرحية السلطان , محكوماً بمنطقها, منطقها الذي لا منطق له في النهاية سوى القوّة .

 لا استثناء في الحياة , كلّ ما فيها ملتبس و ممتزج بما لا يُفهم , لا كمال لغير النقص الدائم في حكايتها , و لا فهمَ لغير المبهم الدائم في النصّ , التسليم بالظلّ بديلاً عن الشمس هو وحده خطوة المحارب الذكيّة الاولى في اقتحام التيه , و معاركة السراب , لا لكي ينتصر , و إنّما لئلّا يموت دون أن يعرف خصمه !

أمّا مصير تلك اليد , يد ابن مقلة , فيروي القاضي التنوخي , الذي عاصر ابن مقلة , و عايش –بحكم عمله كقاضٍ- خفايا الدولة و أسرارها , أنّ هناك خزائن في دار الخلافة , عدا خزائن الكنوز و الهدايا , كانت حزائن ما أخذته الدولة ممّن تحدّى سلطتها , في تلك الخزائن كانت رؤوس و أيدٍ و أصابع و آذان من نسوا في لحظةٍ ما أنّ السلطة ستبقى أقوى من الأذكياء , في أحد الأدراج كانتْ ثمّة يد بأصابع نظيفة ممدودة و بجانبها رأس و بينهما ورقة كُتب عليها : هذا رأس الوزير الحسين بن القاسم و هذه يد الوزير أبي علي بن مقلة , هذه اليد وقّعت على قطع هذا الرأس.

ما زلنا حتى اليوم نقرأ القرآن بيمين ابن مقلة المبتورة , مبتورون نحن في التاريخ , نبحث عن أيّ قماشٍ نغطّي به الفراغ اللامفهوم و الموحش الذي كانت تحتلّه يد ابن مقلة, حتى نفهم كلماتنا , ما زلنا نكتب بتلك اليد المبتورة , لنفجأ بأنّنا نمسك الفراغ , مرتعدون نحن من الحقيقة , نهرب إلى المجاز فيأكلنا , نفرّ من الواقع إلى اللغة لتكملنا الكلمات فتعرّينا كلماتنا أجساداً من الحفر العميقة المتناثرة بلا أيّ قانون, أجساداً من النقص الأصليّ الهارب دوماً من مراياه, أجساداً من الأحلام التي يبتلعها الواقع الفجّ و تقاوم احتضارها بالخدر اللذيذ للوهم .

كلّنا, حتى الآن , نحمل على أكتافنا الظلّ المرعب ليمين ابن مقلة المبتورة .

_____

ما زلنا نبحث مع اينشتاين على شراشف النوم عن القانون الكليّ , و ما زالت بنو تغلب تتلو شعر ابن كلثوم , لم يحلّ القاضي ما بين تميم و الأزد , وما زلنا عالقين في انتظار الأحنف بن قيس كي يغسل الدم , لم نغسل حتى اليوم سمّ هدايا الروم عن جسد الملك العربي , ولم ينس امرؤ القيس بينما يحتضر جسد ابنة عمّه العاري , ما زالت عنق سعيد بن جبير مرميّة على الأرض تنتظر أن يرمي بها رجل واحد عرش الحجّاج , و الملائكة يمسّدون كتف الإمام مالك كي يدعو الله أن يغفر لجلّاده جهله , لم ينتبه أحد إلى مكتبة التوحيدي التي تحترق , لم ينس الشهداء أن يزوروا في الليل غرف الحبيبات , و السماء ما زالت تخاف كلّما دخلت أمّ إلى مشفى الحرب , لم نفهم بعد معنى دموع النساء , ولم نجب حتى الآن عن سؤال القذافي : من أنتم …. من نحن ؟ , من نحن ؟

4

القصّة الأولى

في الصباح الجادّ حمل المثقّف دفاتره و كتبه و مضى في طريقه الصعب الطويل نحو المكتبة , لم يكن طلوع الشمس مختلفاً جدّاً إلّا أنّ الشعاع الخفيف ذكّره بواجبه نحو تغيير العالم , و بأنّ إشكاليّة المعرفة البشريّة آن لها أن تُحلّ , و كان يشغله بينما تطلع الشمس عليه رويداً رويداً حتى انتصبتْ واحدةً فوق رأسه سؤالُ الثنائيّات التي يمكنه بإبداع لغويّ صرف أن يردّها متسقةً كنهر , و كلّما مرّت قربه سيّارة الشرطة تذكّر أنّ صورة الدولة لديه لم تكتمل بعد , متنبّهاً لواجب أن يسرع في ذلك حتى ينقذ الأمّة من انحدارها و اختلال مفاهيمها , بَلْهَ طبعاً بداهة أنّ كلماته سترفع راية العدل من شقوق جراح المظلومين فوق قصور الطغاة و تسرّ الشهداء في قبورهم, متعرّقاً من طلوع لم يتنزّل بجوازِه الشرعُ تحت قيظ الشمس كان يتنحّى عن كلّ فتاة يمرّ بها , يكفي العابرات رؤية الثياب الأنيقة, لم يكنْ سؤال الأنوثة في المعرفة و الأمكنة يشغله أكثر من سؤال الخصر, لكن الأولى يمكن التفكير فيها بالكلمات بطبيعة الحال, و تذكّر مع كلّ خصر متقن السبك ضرورة التنبيه على الخطأ العامّ في فهم العبارة التي أضحت مستهلكة لابن عربي في أن “المكان الذي لا يؤنّث لا يعوّل عليه” , فالمكان لدى ابن عربي عليه أن يتحوّل إلى مكانة و هذا تأنيثه , لا بمعنى حضور الأنثى فيه, و إن كان حضور الأنثى أكثر جدوى و قابليّة للتحقّق لدى من لم يأخذهم الحال لغير الدائرة الواضحة في الجسد  لا لدائرة المعنى في العالم , و هذا تبعٌ لإعادة التأويل الساذجة بفجاجة للتصوّف الإسلامي و التي تستبطن سياق تحديد ايديولوجي ما بعد حداثي مختلفاً عن سياقه التأمّليّ اللغويّ الخاصّ , بين اليمنى و اليسرى نال اليسار الحظّ الأكبر من غبارٍ نثرته ورشة بناءٍ مرّ بها , طالما كان اليسار أغبر و على عكس نظّارته لا يمكن تنظيفه , لكنّه لا يصنّف نفسه كيمينيّ , إذ من تصوّره أنّ القول بيمينيّته هو تسليم بمركزيّة الآخرين في تصنيفه , بينما هو المرجع في تصنيف الآخرين و نسبتهم حسب مسافتهم منه , و هذا ثابت لا يتنازل عنه .

حين بلغ المكتبة , و أمام الباب العالي المنيف لمعرفة العالم , فزّ في وجهه السؤال الوحيد الذي حاول تجاهله طيلة طريقه: لماذا لم تقدّم له كلّ هذه الثقافة أجرة التاكسي ؟!

بغير حماس, استدار عائداً بصمت وبلا أسئلة , دخل غرفته , و استمنى بقرف , و نام .

القصة الثانية

لم يُقتلْ له أحد برصاص الأعداء ,ولا كان يبدو –بحكم تعبّده الخفيف رغم إيمانه الصلب- منطلقاً في حربه من اعتقاده بفرض الجهاد عليه , و بإمكاننا القول أن لا أحد كان يعرف مكمن الثأر الذي يفجّر عروقه غضباً وسط المعركة , و حرصه على أن يتولّى بنفسه إعدام كلّ أسير مرتبك نزف رفاقه الدم بينما يتبوّل خوفاً , كان حريصاً على ألّا يقتله أحدٌ سواه, بغير دمٍ بارد ولكن بيد ثابتة , و ربما لم يبق أحد يحمل صوت أحمد سعيد الهادر عن رمي اليهود في البحر سواه , كان غريباً عن هذا البلد وحيداً إلّا من رسائل لم يرها أحد غيره و أحرقها قبل يوم المعركة الكبرى , ذلك اليوم الذي لا تنساه الشمس ولا عجائز الحارة المحتلّة.

أبعد ممّا وصل أحد من رفاقه قبل أن تهدأ النار, وجدوه غير مبتسم ولكن ثابت الملامح , كامل الجسد إلّا من شقّ خفيف في الرقبة , و في صدره ورقة من سطر واحد :

تعرفين , لقد أكلوا حصّتكِ من برتقال يافا .

القصة الثالثة

لم يفهمْه أحد, لا الرصاصة ولا القنّاص ولا رفاق السلاح, حين مرّ ببطءٍ لا مبالٍ مشرعاً جسده لقاتلٍ لم تر وجهَه النساء , لم يفهم أحد ذلك الخدر الذي كان يحسّه كلّ مرّة بعد أن ينقضي اليوم و يعود إلى نفسه وحيداً إلّا من الأمان المذلّ, ذلك الخدر الخفيف الفرِح الذي يخفي ندماً لا يفهمه من لم يجرّب الوقوف بثبات على على الحافّات الدقيقة لما بين الحياة و الموت في جبهات القتال الممتدّة من أقصى هذه البلاد لأقصاها, لم يكن ثمّة صوتٌ يوحّد بين اللهجات الألف التي يلهج بها أبناء هذا البلد الذين لا يجمع بينهم كشعب إلّا أنّهم سمعوا أنّهم شعب , حتى قامت هذه الثورة …. الثورة الحرب , فوحّدتْ جهاته أصوات القنابل و نوحِ النساء .

كان يشعر بالحسرة  المريرة و الخبيئة كلّما مرّ من خطرٍ سالماً , لم يحاول فلسفة الأمر كثيراً لرفاقه حين سألوه, في النهاية هم في ذات الطريق الطويل و يسمعون ارتباك الهواء نفسه, كان يرى أنّ المعركة احتمال الإنسان الأخير حين يكتشف الحقيقة الفجّة و الصادقة كما ينبغي للحقيقة أن تكون , حقيقة النقصان الأصليّ الذي تجبهه به الحياة , حين ذاك يرمي بحياته في خضمّ الحسم الأخير ,حتى يأخذ بزنده الاكتمال الصعب على من ألفوا ذلّ المعتاد المكرّس, المعركة هي خوض الاحتمال المكتمل الأخير بعد السأم من الخضوع المهين لتلاعب الاحتمالات الكثيرة بنا في خضمّ الحياة الناقصة أبداً.

لكنّ هذه الحياة الفجّة, حتى بعد أن تكتمل هُنيهةً بالنصر الصعب عبر الدم الحميم, تضعنا أمام السؤال القاسي و المخيف : لماذا لم….. .

أدرك بعد إنكار طويل أن الحياة لن تكتمل, أي لن تنتهي الأسئلة,  إلّا بالاكتمال الآخر , باكتمال الموت.

حين كان يمشي ببطءٍ مشرعاً قلبه لقنّاص لم تختبر قلبَه النساء, في تلك اللحظات القليلة بينما يستعجله المقيمون خلف السواتر الآمنة, وهو يمشي خفيفاً خفيفاً بلامبالاة كاملة, حين تساوتْ لديه الاحتمالات , إذ ذاك , و إذ ذاك فقط , شعر بالحرية الكاملة , شعر بالاكتمال الوحيد الذي لن يهبه له حتى الموت.

__________

لماذا نقصّ ؟

لأنّنا متشابهون بشكلٍ مرعب…و مضحك في الآن نفسه.

متشابهون , ولا نملّ من أن نكرّر أخطاءنا و هفواتنا و خيباتنا , نتشابه حتى في تفاصيل الفرح و طقوس الحزن , هل تعلم ما هو أكثر عرياً و انتفاءً لذاتيّة الذات من أنّ هناك من يحزن مثلك ؟!

و لهذا كان مبنى القرآن على القصص , لأنّنا متشابهون لا في اللحظة وحدها ,  وإنّما في التاريخ , كينونة الإنسان نفسه تتناسخ و تغيّر وجهها و تفاصيلها ربما , لكنّها لا تملّ من الوجهة القديمة نفسها للنسيان .

نمشي على خيط رفيع من لغة تتشابه مفرداتها , و بوجوه غضّنها تقليد مشاعر الآخرين الذين لا نعرفهم , و بأيدٍ تعبتٍ من التمسّك بالحبل الدقيق الخشن للأمل السراب , و قلوب لم تتعب رغم الخيبات الكثيرة من رؤية الماء في الصحراء.

في كلّ منّا ثمّة آدم قام من العدم بنفخة خلق واحدة , و تلا الكلمات بزهوٍ ,  ثمّ نسي الكلمات … و ضيّع جنّته , و في كلّ منّا سامريّ ترك الإلهيّ الأجلّ و التحق بالذهب التراب , فقضى على نفسه ألّا يمسّ الوجود … و يتيه .. و يتيه .

5

لمساء آخر هذا المساء

لماذا أرسلتِ لي هذه القصيدة بالذات؟! , ربما تجيبين كان القدر .

مسكين هذا القدر , كم يحمل عنّا من خيباتنا , ولكنّه يصرّ على أن يشبهنا و يسايرنا في لعبنا الأبديّ على الصراط الدقيق للنسيان.

ربما كانتْ قدرَنا يا حبيبة.

تعرفين لماذا كتب درويش هذه القصيدة , لا لأيّ شيء إلّا للغة , ليس ثمّة معنى متضمّن فيها سوى أنّه أراد إثبات أنّ للغة وحدها جماليّة قصوى منعزلةً عن المعنى , و كان له ذلك.

ربما كانت اللغة السبب , كنّا لغويّين جدّاً , أخذتْنا اللغة منّا , ليست أحرفها – الأمة كما يقول ابن عربي- ولا أنّنا استحلْنا إلى كلمات , و إنّما لأنّنا جارينا توق اللغة للكمال , و اتسقْنا فيه , أصبح ما بيننا كاملاً … كاملاً جدّاً … أكثر من أن تسمح الحياة الناقصة أن يعيش.

لمساء آخر هذا المساء , محكومون دوماً بالمؤجّل , بما لا يأتي , بالأمل , بأن ننحاز للسراب حتى إن أدركْنا أنّه سراب حتى لا نفقد مسوّغ الرحلة, محكومون حتى في الراهن للآتي , الذي سيكون راهناً … راهناً جدّاً , أكثر من أن يحدث , لا تقف الساعات , كان علينا أن نكسر زجاج الرمل و نذروه في الصحراء و نهرب من عين الزمن قبل أن يخترع الإنسان ساعات الكهرباء.

لمساءٍ آخر هذا المساء , و لقلبٍ آخر هذا القلب , ولحكاية أخرى هذه الحكاية , و لحياةٍ أخرى كان على هذه الحياة أن تكون , ولوجعٍ آخر ستسلّم هذه الروح كنهها دون أن تنعتق من ربقة الهجير و انتظار عقارب الموت التي لا تجيء بينما تتلوّى مقيّدة تحت الشمس و وسط الكثبان السوداء الممتدّة إلى ما لا نهاية.

ثمّة دوماً ما لا ترتاح إليه الحياة , وهو أن تكتمل , و إلّا لماذا تستمرّ , ثمّة دوماً نقصان أصليّ في الحكاية , تتذكّرين دروس الفيزياء , تتحرّك الطاقة بين الأعلى و الأدنى ,ولكنْ إن كان الجهد واحداً فلا طاقة ولا حركة ولا شيء يستحقّ أن يُدرس أو يُعاش , الحياة دوماً هي هذا السعي الموصول لإتمام النقص الأزليّ الذي لا يتمّ.

  لمساءٍ آخر هذا المساء, ثمّة ما يسيل القلب منه , و ثمّة ما يتفتّت فيه القلب , بين النهر و الصخرة يتردّد ألمُ الكائن البشريّ, ولكن ما الذي يشبه القيامة و اكتمال الجزع؟! , إنّه هذا البركان الآن ,أن تسيل الصخرة , هذا التناقض المكتمل المدهش للحِمَم هو الذي يواجه منطق الحياة في أقسى و أقصى غضب الوجود عليها , يعارك البركان الحياة في منطقها نفسه, متسقاً كمتناقض , واضحاً كمبهم , ولكن قاتلاً غاضباً دون تردّد رغم ذلك .

نبحث عن مدنٍ لا تعرفنا , مدن تحمينا من الذكريات , عن أرصفة طويلة نمشي فيها متعبين….و غرباء , مرتاحين من خدر الوهم أنّنا سعداء و طيبون و محبّون , مسلّمين بضياع السراب, عن شطآن تمتدّ نحو العتمة بلا انتهاء , عن شتاءٍ قاسٍ يلاحق أجسادنا بالبرد و الصقيع حتى يعرّيها , نبحث عمّا يشبهنا , عن غربةٍ واضحة ,عن أن نكون وحدنا في تيه نختاره قبل الحياة ,عن أحضان لا تعدُنا بالحياة الآمنة, عن مرايا تنسانا سريعاً , عن أعين تبكي دون لغة, عن هواءٍ قلق لا يهتزّ كما نفهمه أو نريده , عن كتابةٍ لا تتخيّل قارئها , بعدك عليه أن يبحث عن غربة … عن غربةٍ واضحة , لكي يشبه مصيره , لكي يشبه نفسه , بعد أن فقد بك ممكنه المكتمل الوحيد , و أضحى عارياً أمام غربته, لا يريد أن يترك الصحراء فلا أرض سواها, ولكن أن يقول للسراب إنّه سراب.

_____

تتذكّرين لوحة الخلق لمايكل انجلو , يدُ الإنسان العاري الممدودة بإصبع أوهنه الأمل نحو الله , و يد الله الممدودة نحوه من السماء , ثمّة مسافة قصيرة بين إصبع الله و الإنسان , هذه المسافة هي ما يقضي الإنسان حياته يسعى متعباً دون يأس ليعبرها , لكنّه لو تجاوزها و لمس الله حقّاً لانعدمتْ بشريّته و أضحى إلهاً , كينونة الإنسان و سرّ إنسانيّته و كنه حياته , في هذه المسافة الفاصلة بينه و بين يد الله الماثلة في الوجود , ولكنْ لو استيقظ هذا الإنسان العاري و مدّ إصبعه الواهن وقد انسحب المعنى الإلهيّ من سمائه , فما معنى كلّ ذلك …. ما معنى كلّ ذلك .

6

و الله أجلّ ممّا نعرف و أجمل ممّا يقولون

و الحياة ناقصةٌ دوماً لأنّ الأمل كامل

الإنسان ليس الحيّ الناطق كما عرّفه أرسطو , و هو كذلك ليس الحيّ الناطق المائت -بمعنى الآيل للموت- كما أضاف الكندي , الإنسان هو الحيّ الذي يعي كونه ميتاً معاً .

مهمّة الكوميديا لا أن تنافس التراجيديا , و إنّما أن تخفّف ثقل الحقيقة فيها .

عرفنا الأنبياء من الرجال لأنّنا قادرون على الاختيار أمامهم بين الإيمان و الكفر , كلّ فتاةٍ يوحى لها …

الندم ليس الاعتراف أمام المذبح , و إنّما هو اكتشاف الحياة المذبحة , الندم على عكس ما يُشاع حالة تصالح مع النقص الأصليّ في الحكاية لا حالة تصارع , و لكونه حالةً من التصالح بالذات فهو ممّا يسرّبه شعورنا بالموت … في الحياة وحده الموت الكامل .

عليك أن تحارب , لا لأنّ الحرب بذاتها أفضل بالضرورة , و إنّما لأن لا خيار أمامك سوى أن تكون سيّد احتمالك لا نتيجته , ولا تسأل لماذا أمام الآخرين الخيار , حين حاربتَ اخترتَ ألّا تكون أنت النتيجة , هم نتائج غضبك , و أنت علّة هذا الوجود ما دمتَ ممسكاً به من رقبة الخطّ الدقيق بين استمراره و نهايتك … نهايته

لماذا ستحبّ , بالضبط لأن لا سبب لذلك , و أنت عليك أن ترتاح من ثقل الأسباب , لكن أليس قولك هذا السبب تناقضاً في العبارة ؟! , صحيح لكن متى أخذتَ وعداً بامّحاء التناقض فاعلم أنّك في رحبة الموت وحده … و الحبّ سليل الحياة وحدها .. الحياة التي لا يمكن لها إلّا أن تتناقض و تنقص , و في هذه النقطة الفاصلة بين النقض و النقص لا يقبع الوجود كما تحبّ أن يقول لك المتصوّفة و الفلاسفة و إنّما وهمك .

ربما تأخّرنا , و انخدعْنا طوعاً إلى الخديعة التي خلقناها و أخفيناها عن أنفسنا , لكن البداية … تلك البداية المكتملة المقدّسة العذراء المستحيلة , قبل انقضاض الأشياء و تداعيها و تعرّينا أمام الهاوية و النقص و التناقض … تلك البداية اللعنة لا تكفّ عن البدء دوماً .

حين كنتَ في السفينة خيّرك الموج بين أن تنساق أو أن تسوق , حين أخذتك العزّة باللوح الذي يحملك انسقتَ إلى حفرة البحر واهماً أنّك القائد , ربما لو سلّمتَ -مرتاحاً لوجدك- إلى نسمِ الريح في الموج فيك لانسقت كماءٍ في الماء لمعراجك إليك , ولكن ما دمتَ تقول ربما فما الضامن ؟! , أيّها المسكين حين تريد أن تسوق الأشياء قهراً ستبحث عن قاهرٍ فوقها تدعوه الضامن , أمّا حين تتسق مع صدى الكينونة الذي تدعوه نفسك فقد صرتَ منها … أنت أنت منطق الحياة و قدرها حين تسلّم لضعف قلبك الأصليّ مقامَ عقلك الباغي , فمن يضمنك منك ؟!

لماذا ؟! , ما زلتَ تسأل بذات لام البداية … لم تتعلّم بعد

و الله أجلّ ممّا نعرف و أجمل ممّا يقولون

7

في طريق الليل

ضاع الحادث الثاني وضاعت زهرة الصبار

لا تسل عني لماذا جنتي في النار

جنتي في النار

فالهوى أسرار

والذي يغضي على جمر الغضا أسرار

يا الذي تطفي الهوى بالصبر

 لا باللّه

كيف النار تطفي النار؟

يا غريب الدار

إنها أقدار

كل ما في الكون مقدار وأيام له

إلا الهوى

ما يومه يوم…ولا مقداره مقدار

لم نجد فيما قطار العمر

يدنو من بقايا الدرب

من ضوء على شيء

وقد ضج الأسى أسراب

والهوى أسراب

كنت تدعونا وأسرعنا

وجدنا هذه الدنيا محطات بلا ركاب

ثم سافرنا على أيامنا أغراب

لم يودعنا بها إلا الصدى

أو نخلة تبكي على الأحباب

يا غريبا يطرق الأبواب

والهوى أبواب

نحن من باب الشجى

ذي الزخرف الرمزي والألغاز والمغزى

وما غنى على أزمانه زرياب

كلنا قد تاب يوما

ثم ألفى نفسه

قد تاب عما تاب

كل ما في الكون أصحاب وأيام له إلا الهوى

ما يومه يوم….

ولا أصحابه أصحاب

مظفر النواب

About أحمد أبازيد

facebook.com/abazed89
هذا المنشور نشر في Uncategorized. حفظ الرابط الثابت.

أضف تعليق